[هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين ستقوم "جدلية" بنشره على مدار الأسبوعين القادمين.]
"سنصبح نحن يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا مأوى"
مظفر النواب
كبرنا في سوريا على حبّ فلسطين، رضعْنا حبَّها مع حليب الطفولة. كانت الأحاديث في طفولتنا كلها عنها وعن العدو الذي يحلم بإقامة دولة تمتد حدودها من الفرات إلى النيل. رُبيّنا في المنازل والمدارس على التنبه إلى هذا الخطر. وكانت كلمة فدائي، أو العمل الفدائي، تشكل سحراً خاصاً بالنسبة للأجيال التي سبقتنا وحتى لجيلنا. لكن فلسطين، في الحقيقة، خُذلَتْ، وتُركت لمصيرها الجهنمي. فقد خذلها كثيرون، وأخطأ معها كثيرون، حتى في طريقة النضال. وها قد محت إسرائيل فلسطين، وعلى أنقاضها وفوق جثث كثير من أبنائها شيدت كنيس احتلالها المقدس، الذي يحجّ إليه كثيرون، مقدمين الولاء عبر تأكيد نسيانهم لأصحاب الأرض، الذين، في منظور إسرائيل المُعَمَّم بوسائل شتّى، لا وجود لهم، ولم يكونوا، ولم يلمحهم أحد. أما الذين يسكنون في المخيمات والهوامش فقد نزلوا بالمظلات من كواكب غريبة ويجب التخلص منهم أو إعادتهم إليها.
كان الجرح مؤلماً والنزف لم يتوقف منذ سبعة وستين عاماً، لكن العالم لا يرى، والكاميرات لا تُركّز في العالم الجديد على دم الضحية النازف، فدهاة الإعلام يتقنون فنَّ التغطية الذي يموّه الحقائق فيما يعرّي زيفهم، وأولئك الذين لا يصدقون قصة إعلامهم يذهبون بأنفسهم إلى الميدان كي يروا بأنفسهم ويعلنوا احتجاجهم لكنهم يُسحقون تحت البلدوزرات وسرعان ما يُنسون.
من يرتكب الجريمة اليوم هو ضحية جريمة قديمة، وهي جريمة تاريخية يجب ألا يُذكر غيرها بالنسبة لسادة العالم، وكل القتل الذي يحدث تفاصيل ثانوية أمام تلك الجريمة الأولى المروّعة، وفعلاً هي مروِّعة، ذلك أن الجريمة مروّعة سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لكن الجريمة تكون أكثر هولاً وإيلاماً حين يرتكبها من هم ضحية جريمة، قُدمت على أنها جريمة العصر، لا جريمة تضاهيها. ومن هذا المنظور الأناني، كل الجرائم غير مرئية، أو لا تشكل عبئاً كبيراً على الضمير، فمحو القرى والمدن والمنازل وبناء مساكن جديدة لغرباء عن أرض فلسطين لا يحرّك ضمير الغرب، وقتل الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين ربما يُنْظر إليه كتسلية رياضة صيد البط في المناطق الحدودية الأميركية الكندية، أما السطو على الجغرافيا والثقافة بمفهومها العام فلا يشكل جرماً بالنسبة لمتحضرين شيّدوا حضارتهم على السطو والنهب المنظم وتزوير سندات الملكية.
في ذكرى النكبة يعود إلى ذاكرتي ما قاله إدواردو غاليانو في كتابه "أطفال الزمن": "إن الألفي عام من الاضطهاد الذي عانى منه اليهود استُغلِّوا لتبرير الجشع الرهيب، ناهيك عن ألقاب الجشع التي منحتْها التوراة". يضيف غاليانو أن "اضطهاد اليهود كان رياضة أوربية على الدوام، والآن يدفع الفلسطينيون الثمن".
صار اضطهاد الفلسطينيين رياضة إسرائيلية، والتفرج على ذلك هواية غربية وعربية، وفي لعبة تفكيك العراق وتفكيك سوريا وتفكيك لبنان واندراج العرب في تحالفات المصالح انفتح الأفق أمام إسرائيل وصار واضحاً أنها مرشحة لكتابة تاريخ المنطقة بقلم قوّتها وجبروتها، هذا لأننا كعرب اخترنا أن نكون أدنى من التاريخ، أن نظل سلطات أنانية هاجسها وهمّها العرش والسلالة، شعوباً خاضعة لمنظومات الماضي ولحكام لا يكترثون إلا بالقصر ومحيطه ولا يهمهم الشعوب فلديهم أجهزة للتعامل معها إذا ما خرجت عن الطاعة.
لهذا تتواصل النكبة في سلسلة هزائم تحل بنا كل يوم، لأنه مع مرور كل يوم يزداد المحو ويزداد النسيان، يفقد المجتمع مدنيته، وتتعقد آليات السيطرة والتحكم.
فلسطين جرح ماديٌّ ورمزيٌّ، ولا أحد يشعر بالوجع الفلسطيني كالفلسطينيين أنفسهم، فهم الذين قُتلوا وشُرِّدوا، وهم الذين دفعوا الثمن بدمهم، وكان العالم المتحضر جباناً أو متواطئاً ضدهم. وفي هذه اللحظة من التاريخ لا يبدو أن الغرب يرى أن إسرائيل فولاذ وأسلحة وقباب صاروخية وحرس ومؤسسات أمنية ولغة قائمة على الذكاء الموظف في خدمة الاحتلال والإقصاء العنصري للآخر.
مللنا من اللغة التي تحتفي بفلسطين وكبرنا لا نعلم عن فلسطين أي شيء سوى أنها احتُلت، ولكننا أغفلنا التفاصيل، لم ندقق في الأسباب، عشنا على هوامش الحدث، حتى حين كنا ضحايا له، حتى حين ردّدنا شعارات من أجله، وكنا نشعر أن هناك من يضحك علينا، أننا مخدوعون، على مرّ الأعوام.
أنشئت دولة إسرائيل في 1948 وحتى الآن لا نعرف عن هذه الدولة الكثير، كيف تشكلت، ومم تتألف، وما الذي يجري فيها. ليس لدينا معاهد أبحاث تنوّرنا، أو تفسّر لنا أي شيء، ولا مدخل لنا إلى التقارير، هذا إن كانت موجودة، عن إسرائيل. مطلوبٌ منا أن نظلَّ جهلة بهذا الكيان الذي يدرسنا ويترجمنا ويشرّحنا ويكتب عنا ويتابعنا ويعرف الشاردة والواردة عن حياتنا، وكل ذلك كي يطيل من أمد احتلاله، ومن أمد نكبتنا.
يقول بعضهم إن سوريا تحترق، والعراق يحترق، ومصر تحترق لأن إسرائيل تريد ذلك، كلام سليم، لكن لهذا الحريق قصة أخرى، تنبع من نكبات من نوع آخر، سببتها السلطات التي صغّرت بلدانها إلى حجم السجن والقبر، السلطات التي أنشأت معارضة على صورتها، ونهبت ثروات شعوبها.
وهذه قصة معروفة، قصة رواها الشاعر العراقي مظفر النواب في قصيدته "القدس عروس عروبتكم"، التي قال فيها: “حملتم أسلحة تُطلق للخلف…” وكانت فلسطين شاهدة على كل هذا، وهي تفقد قراها وبلداتها ومدنها، وفيما كانت تُغَيَّر خريطتها ويُشرّد سكانها ولا يبقى إلا ذلك الهامش الضيق الذي يُدعى غزة، الذي يُحشر فيه من تبقى من أبناء فلسطين، الذين تُسلِّط عليهم إسرائيل بين الفينة والأخرى نيران أسلحتها الوحشية أمام أعين العالم كله، العالم الذي يدعّم النكبة باسمنت اللامبالاة وعلى وجهه قناع السلام.